Welcome to our consulting company Consultio!
محامون القمةمحامون القمةمحامون القمة
(Sat - Thursday)
Melbourne, Australia

التحكيم التجاري في مصر: بين القانون والواقع التطبيقي

  • Home
  • Construction
  • التحكيم التجاري في مصر: بين القانون والواقع التطبيقي

التحكيم التجاري في مصر: بين القانون والواقع التطبيقي

مقدمة

شهدت العلاقات الاقتصادية والعمرانية في العالم المعاصر تطورًا كبيرًا، مما أدى إلى تنوع النشاطات التجارية وزيادة التعاملات بين الأفراد والدول. ومن ثم برزت الحاجة إلى آليات فعالة لفض المنازعات التي قد تنشأ عن هذه التعاملات، خاصةً تلك التي تتطلب السرية والسرعة والاحترافية. ومن بين هذه الآليات جاء التحكيم التجاري كأداة قانونية مُثلى للوصول إلى حلول عادلة وسريعة للنزاعات.

وفي مصر، يُعد التحكيم التجاري أحد أهم أدوات فض المنازعات التجارية، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، وقد نظمته التشريعات المصرية بعناية، خصوصًا القانون رقم 27 لسنة 1994 في شأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية، والذي تم تعديله بالقانون رقم 5 لسنة 2023 ليتماشى مع المستجدات المحلية والدولية. إلا أن الواقع التطبيقي يُظهر وجود فجوة بين ما نص عليه القانون وما يتم تطبيقه على أرض الواقع، وهو ما يجعل من الضروري الوقوف على أبرز القواعد القانونية المنظِّمة للتحكيم التجاري، ومراجعة المعوقات التي تواجه تطبيقه، واقتراح الحلول المناسبة لذلك.


أولًا: مفهوم التحكيم التجاري وأهميته

يُعرَّف التحكيم التجاري بأنه وسيلة اختيارية لفض المنازعات التجارية، يتم فيها اللجوء إلى محكمين أو هيئة تحكيمية محايدة تصدر حكمًا ملزمًا يُنفذ دون الرجوع إلى المحاكم النظامية. ويتميز التحكيم بعدة سمات منها:

  • الاختيارية: حيث يتفق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم بموجب اتفاق كتابي (شرط تحكيم أو اتفاق تحكيم).
  • السرية: حيث لا يتم نشر إجراءات التحكيم ولا أحكامه.
  • السرعة: مقارنة بالإجراءات القضائية الطويلة.
  • الاحترافية: إذ يُختار المحكمون غالبًا من ذوي الخبرة الفنية أو القانونية في الموضوع محل النزاع.
  • النفاذ المحلي والدولي: حيث يمكن تنفيذ أحكام التحكيم داخل مصر وخارجها، خاصةً إذا كانت صادرة في إطار اتفاقيات دولية مثل اتفاقية نيويورك لعام 1958.

وتبرز أهمية التحكيم التجاري في البيئة الاستثمارية، فهو يعزز الثقة بين الشركاء الاقتصاديين ويزيد من جاذبية الدولة للمستثمرين، باعتباره وسيلة فعالة وموثوقة لحل النزاعات.


ثانيًا: الإطار القانوني للتحكيم التجاري في مصر

نظم المشرع المصري التحكيم في المواد المدنية والتجارية بالقانون رقم 27 لسنة 1994، الذي استلهم أحكامه من قوانين تحكيم متقدمة، وخصوصًا “نموذج UNCITRAL” للأمم المتحدة الخاص بالتحكيم التجاري الدولي. وشمل القانون جميع جوانب التحكيم، بدءًا من شروط انعقاد اتفاق التحكيم، مرورًا بإنشاء هيئة التحكيم وإجراءات التحقيق وصدور الحكم، وانتهاءً بتنفيذ الحكم أو رفض تنفيذه.

ومن أبرز القواعد التي نص عليها القانون:

  1. حرية الأطراف في الاتفاق على التحكيم: المادة 1 من القانون تؤكد حرية الأطراف في الاتفاق على التحكيم في أي وقت، شريطة أن يكون ذلك باتفاق كتابي.
  2. استقلالية شرط التحكيم: المادة 3 تنص على أن شرط التحكيم مستقل عن العقد الأساسي، فلا تسقط صلاحيته بفسخ العقد أو إبطاله.
  3. سلطة المحكمين في تقدير إجراءاتهم: المادة 18 تمنح هيئة التحكيم سلطة تقديرية في إدارة الإجراءات بما يراه مناسبًا لتحقيق العدالة.
  4. إلغاء حكم التحكيم: يمكن الطعن فيه أمام محكمة الاستئناف بناءً على أسباب محددة مثل عدم اختصاص المحكمين، أو مخالفة الحكم النظام العام، أو عدم توافقه مع شروط الشكل.
  5. تنفيذ أحكام التحكيم: المادة 55 تسمح بتنفيذ الحكم بنفس طريقة تنفيذ الأحكام القضائية، كما أنه يمكن تنفيذ الأحكام الصادرة في الخارج وفقًا للاتفاقيات الدولية.

وبالإضافة إلى هذا القانون، هناك تشريعات أخرى ترتبط بالتحكيم، مثل قانون التجارة رقم 17 لسنة 1999، وقانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017، الذي نص في بعض مواده على التحكيم كوسيلة لفض المنازعات بين المستثمر والدولة.


ثالثًا: الواقع التطبيقي للتحكيم التجاري في مصر

رغم التطور التشريعي الذي تشهده مصر فيما يتعلق بالتحكيم التجاري، فإن التطبيق العملي لهذا النظام يواجه عددًا من التحديات التي تحد من فعاليته وانتشاره، ومن أبرزها:

1. ضعف الوعي بأهمية التحكيم

ما زالت ثقافة التحكيم غير مترسة لدى كثير من رجال الأعمال والمستثمرين، الذين يفضلون اللجوء إلى القضاء النظامي رغم بطء إجراءاته، وذلك بسبب قلة الوعي بفوائد التحكيم وآلياته.

2. غياب الكوادر المؤهلة

رغم وجود بعض المحكمين ذوي الكفاءة العالية، إلا أن هناك نقصًا في عدد المحكمين المتخصصين في المجالات المختلفة (مثل التكنولوجيا، والطاقة، والمالية)، مما يؤثر على جودة القرارات التحكيمية.

3. تدخل الجهات القضائية في بعض الحالات

رغم مبدأ استقلالية التحكيم، إلا أن هناك حالات تدخل فيها المحاكم النظامية في إجراءات التحكيم، خصوصًا عند رفع دعاوى قضائية موازية، أو تأخير تنفيذ الأحكام التحكيمية، مما يخل بمبدأ الحماية التي يجب أن يوفرها القانون للتحكيم.

4. تعقيد إجراءات تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية

رغم أن مصر طرف في اتفاقية نيويورك، إلا أن تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية قد يستغرق وقتًا طويلًا بسبب الروتين الإداري أو التفسير الضيق لأسباب الرفض.

5. ارتفاع التكاليف المالية

رغم أن التحكيم أسرع من التقاضي، إلا أن تكاليفه قد تكون مرتفعة في بعض الحالات، خصوصًا عند اللجوء إلى هيئات تحكيم دولية أو استخدام خبراء، مما يشكل عائقًا أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة.

6. غياب مركز محلي متكامل للتحكيم

رغم وجود عدد من مراكز التحكيم في مصر مثل مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، إلا أنها ما زالت بحاجة إلى تطوير أكثر لتكون مراكز جاذبة للتحكيم الدولي، وتتمتع بسمعة قانونية وتقنية عالية.


رابعًا: التحديات والحلول المقترحة

لكي يحقق التحكيم التجاري دوره المطلوب في البيئة التجارية والاستثمارية في مصر، ينبغي التصدي للتحديات السابقة عبر مجموعة من الحلول العملية، ومن أبرزها:

1. نشر ثقافة التحكيم بين مجتمع الأعمال

يجب على الجهات الحكومية والقطاع الخاص العمل على توعية رجال الأعمال والمستثمرين بأهمية التحكيم، وكيفية إدراج شروط التحكيم في العقود التجارية.

2. تطوير كوادر المحكمين

العمل على تدريب المحكمين وتأهيلهم في مختلف المجالات، وتشجيع إنشاء جمعيات أو نقابات للمحكمين تشرف على ضمان الجودة والمهنية.

3. تعديل الإجراءات التنفيذية

تحسين آليات تنفيذ أحكام التحكيم، وتبسيط الإجراءات الخاصة بتنفيذ الأحكام الأجنبية، واعتماد نظام إلكتروني موحد لمتابعة تنفيذ هذه الأحكام.

4. تعزيز استقلالية التحكيم

منع التدخلات القضائية في إجراءات التحكيم، والتأكيد على مبدأ “التحكيم يوقف التقاضي”، بحيث لا يجوز تقديم دعوى قضائية إذا كان هناك شرط تحكيم سارٍ.

5. دعم مراكز التحكيم الوطنية

تحويل مركز القاهرة الإقليمي إلى مركز دولي متكامل، بدعم مالي ولوجستي، وربطه بالمنظمات الدولية المعنية بالتحكيم، لجعل مصر وجهة للتحكيم التجاري في المنطقة.

6. تشجيع التحكيم الإلكتروني

في ظل التطور الرقمي العالمي، يمكن للقانون المصري أن يتبنى أحكامًا جديدة للتحكيم الإلكتروني، خاصةً في النزاعات المتعلقة بالتجارة الإلكترونية والعقود الرقمية.


خامسًا: موقف مصر من التحكيم التجاري الدولي

لعبت مصر دورًا مهمًا في مجال التحكيم التجاري الدولي، فهي من الدول التي وقعت على العديد من الاتفاقيات الدولية، مثل:

  • اتفاقية نيويورك لعام 1958: الخاصة بإنفاذ أحكام التحكيم الأجنبية.
  • اتفاقية واشنطن لعام 1965: الخاصة بتسوية المنازعات الاستثمارية بين الدول والأجانب (ICSID).
  • اتفاقية القاهرة الإقليمية للتحكيم التجاري العربي لعام 1987.

ومن خلال هذه الاتفاقيات، أصبح بالإمكان تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية في مصر، وتقاضي النزاعات بين المستثمرين الأجانب والدولة عبر هيئات تحكيم دولية، مما يعزز الثقة في البيئة الاستثمارية.


الخلاصة

يُعد التحكيم التجاري في مصر من الآليات القانونية الحديثة التي تحتاج إلى دعم أكبر على المستويين التشريعي والتطبيقي. فقد وضع القانون المصري الأسس اللازمة لتنظيم التحكيم، لكن الواقع يُظهر وجود فجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق، تتمثل في ضعف الوعي، وعدم كفاية الكوادر، وتعقيد الإجراءات، وضعف البنية التحتية للتحكيم.

لذلك، فإن إعادة النظر في التشريعات ذات الصلة، وتطوير البنية المؤسسية لدعم التحكيم، ورفع مستوى الوعي المجتمعي بأهميته، هو الطريق نحو بناء نظام تحكيمي فعال يساهم في تعزيز البيئة الاستثمارية وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، ويجعل مصر مركزًا إقليميًا للتحكيم التجاري في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.